إبحار في «إلى أين تذهبين يا عايدة ؟»..

الناقد الفني خالد محمود يكتب.. من ينسى أخطاءه محكوم عليه بتكرارها

الفيلم البوسني "إلى أين تذهبين يا عايدة"
الفيلم البوسني "إلى أين تذهبين يا عايدة"

◄ الفيلم البوسني يعيد مهمة السينما في بناء ذاكرتنا لفهم جديد للتاريخ ويكشف ضعف الأمم المتحدة

◄ ياسنا ديوريسيتش تقدم واحد من أعظم أدوارها على الشاشة بتجسيدها قصة شعب أبادته الحرب

 

التاريخ مليء بالقصص التي تستحق أن تُروى، وتلك هي مهمة السينما التي تعيد بناء ذاكرتنا حول وقائع وحكايات إنسانية من زمن علا فيه خطاب الدمار والحرب والأطماع على حساب كل شيء.

ربما لم توفق بعض الأفلام في مهمتها، وإن كان ذلك لا يقلل من أهمية سعيها لتقديم  تلك الفصول من  القصص، لكن  ينجح البعض الآخر باقتدار في إعادة محاكمة  التاريخ وصناعة ولو بمشهد واحد يستحوذ على كل مشاعرك ويلملم أفكارك المتناثرة، مثلما قدمت المخرجة ياسمبلا زابانيتش في فيلمها المرهف بقسوته " Quo Vadis Aida  أو "إلى أين تذهبين يا عايدة"؟  الذي عرضته شاشة مهرجان الجونة السينمائي وفاز بنجمته الذهبية.

وهو يستند إلى قصة حقيقية تتناول الجانب الإنساني واللا انسانى من الإبادة الجماعية البوسنية في منتصف التسعينيات، وبالتحديد فى يوليو 1995 و لم يخلو من اللحظات المؤثرة والوحشية على حد سواء خاصة فى تلك المشاهد المتعلقة بقصة القتل الجماعي والعدالة المفقودة لضحاياها، فى حضور صورة شديدة الواقعية وأداء قوى للغاية .

الرؤية الأكثر تأثيرا في الفيلم هو أن الجميع بما فيهم الضحايا ومن يرعاهم من قوات الأمم المتحدة يقفون متفرجين أمام مشهد الإبادة ومعاناة بطلتنا التي تواجه الموقف وحدها بالرغم من تفاقم الوضع والأزمة الإنسانية التي علت وتيرتها عالميا.

بطلة قصتنا هى عايدة "ياسنا ديوريسيتش" معلمة سابقة تعمل مترجمة لدى الأمم المتحدة تعمل كل ما بوسعها لإنقاذ وحماية أسرتها المكونة من زوج وابنين، والتي كانت جزءًا من الآلاف الذين نزحوا بسبب الحرب يبحثون عن مأوى فى معسكر الأمم المتحدة بعد ان احتل الجيش الصربي بلدتها الصغيرة سربينيتشا وسيطر عليها، وكم كانت تجري ذهابًا وإيابًا لتترجم ما يحدث من تعليمات ومستجدات وهى تواجه بيروقراطية محبطة و معركة خاسرة ضد القوات الصربية التي تغزو بلدها.

تعطينا ياسميلا عبر طرحها الماهر قصة خام  بقدر ما هي مؤلمة للغاية وعرفت طريقها إلى الجمهور بوعى  ودون أي خطاب مباشر باستثناء عدة جمل حوارية فرضت نفسها كلما اقتربنا من النهاية.

إذن نحن أمام فصل مهم آخر من التاريخ لسلسلة من الأحداث  التي عاشها وذهب ضحيتها مجموعة من البشر، رغم محاولات الإنقاذ التى تعددت مواقفها بشكل مؤثر على الشاشة.

نحن أمام قصة شعب، والعديد من الشعوب أجبرت على تحمل ثقل الحرب الملعونة على أكتافها وأجبرت بكل الطرق على كره بعضها البعض على الرغم من ماضي الحياة المشتركة الفيلم اتهام قوي للأمم المتحدة نفسها.

ففى منتصف الطريق تحاول عايدة بكل الطرق إنقاذ عائلتها إشراكهم كمتعاونين في مسار المفاوضات مع الصرب.. لكن ما هي المخاطر الحقيقية التي يجب خوضها؟ ماذا سيكون الثمن الذي يجب دفعه؟، فهي ممزقة بين واجباتها كمترجمة ومحاولات مختلفة لإنقاذ أحبائها ، تركض عايدة يسارًا ويمينًا فى صورة لاهثة لمساعدة أولئك الذين يحتاجون بدورهم إلى الدعم.

عايدة هنا لا تهدأ أبدا ومعها  تركزت الكاميرا بالكامل، فهى تحمل الفيلم بأكمله تقريبًا على كتفيها تبنت المخرجة  سياسة تثبيت الكاميرا على عايدة فى اغلب المشاهد نتحرك معها، نتبعها في الأماكن والأفكار، نفهم ما تحاول فعله، نحارب الوقت ضد عدو لا يتردد فى القسوة، وجيش وقائي  بدون أوامر أو سيطرة، والأحداث تتحرك من حولها والتى أجبرت  المشاهد على الدخول فى القصة ، ولا ينبغي نسيانها بفضل أدائها الحيوى والقوى ، والذى جعل المشاهد جزء من الحكاية ، فالحديث هنا عن أول إبادة جماعية على الأراضي الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية ،عن جرح مفتوح على وجه البوسنة، جراء الفظائع التي ارتكبها الصرب ومفاجأة عدم جدوى الحماية الدولية التى بديهيا أن تكون مضمونة.

عايدة  هنا  هي مرشدنا لخط الاتهام  للامم المتحدة وهو ما يجعل الفيلم أكثر من كونه حالة سينمائية ، حيث يظهر بوضوح كيف فشلت المنظمة الدولية التى تركت سكان سريبرينيتشا يواجهون مصيرهم فى مواجهة المذبحة التى يجب الا يبقوا أسرى لأنقاضها

ونجحت المخرجة بأسلوبها الذي يشبه الشلال في التعامل مع المشكلة بنظرة واضحة وناضجة، من ناحية أخرى لم تتردد في الانغماس في المشاعر من وقت لآخر، وينتهي بها الأمر حتمًا إلى صنع الحقيقة.

وكما هناك لقطات كالكابوس هناك لحظات تشبه الحلم ، حيث تستعيد عايدة حفلة رقص وكأنها تتذكر الحياة، ولا تتردد الكاميرا بالحركة البطيئة   في التركيز بشكل مفرط على وجوه كل شخصية على حدة، ثم تنقلنا الى الألم الذي ينفجر في النهاية ، بصورهم وهم  جثث وقد  تحولت   إلى أكوام من العظام  وتطوف عايدة حولها لتتعرف على أهلها فى مشهد عظيم الأداء، وهنا تبرز قيمة العاطفة التى لبعت دورا مهما فى كراهية الجمهور للحظة والخوف للعودة من جديد وهو احد أسرار نجاح الفيلم الذى تفوق فى نواياه ، انه حقا عمل شجاع وكامل  عمل ساحر بشكل يروي قصة قوية ومهمة.

قدمت الممثلة الصربية ياسنا ديوريسيتش واحد من اعظم أدوارها على الشاشة بكل انفعالاته الصادقة وهى تلقى بنا فى قلب الحدث وقد أوجعت قلوبنا ، وهى تتنقل  بالأداء من مرحلة لأخرى  من مدرسة اللغة الانجليزية التى  أُجبرت على أن تصبح المترجمة الرسمية لمفاوضات صعبة بعد احتلال الجيش الصربي للمدينة التي استسلمت  للجنرال  القاسي ملاديتش الذى جسده  بوريس إساكوفيتش ، ومحاولاتها تحقيق هدف مزدوج: التوسط في إطلاق سراح المدنيين بأمان في سريبرينيتشا وإنقاذ أسرتها.. وكل جملة يجب أن تمر بها هي بمثابة زلزال فى رأسها.

نجحت المخرجة البوسنية  فى استخدام مفرداتها وأدواته الخاصة سينمائيا فى التعبير عن شعور عن  وفى مقدمتها  القوة البصرية ، دون الحاجة لاستخدام كلمات او تفسيرات ، الفيلم لا يقصد منه أن يكون مجرد إدانة للجيش الصربي أو الأمم المتحدة . إنها أكثر من ذلك بكثير: رسالة حب إلى الشعب البوسني ، وتحذير لشعوب أوروبا والعالم ومن ينسى أخطائه محكوم عليه بتكرارها .

فعندما يتمكن الفيلم الذي شارك فى إنتاجه 8 دول فى مقدمتها البوسنة، من تصوير قصة بهذه الطريقة ، عندما يكون المشاهد قادرًا على فهم الحالة المزاجية والأفكار والشعور بالقلق الذي يصاحب أمة أصيبت بالحروب، فإننا أمام السينما كفن حقيقي.